سلة فارغة
غبار يغطي الأشياء. وجوه شاحبة، كأوراق شجرة لم يعرف الماء دربه إلى جذورها. بريق الأمل يزرع في عيون أرهقها النظر إلى الجهات؛ راجية منها أن ترسل لها قافلة محملة ببعض مايسر قلوب المحرومين،
ترقرقت دموع فرح مجهول في عيون صغار القرية.
بعدما أخبرتهم الحاجة عائشة العواد بما سمعته في المدينة من أقاويل شتى، وهي تبيع مالديها في السلة من البيض؛ الذي حرمت أحفادها الصغار منه لتشتري لهم اللباس، والأحذية، وكأن أكل البيض لم يعد لائقاً بالفقراء أمثالهم.
تحت ظل جدار بيت ترهل من ويلات حرب، حطت رحالها في قريتهم النائية عن ملذات الحياة. جلست الحاجة عائشة بعد عودتها من مشوارها المرهق، أسعفها أحد صغار القرية بكأس ماء تجاوزت حرارته درجة الفاتر كما تعلَّم الصغير ذلك المصطلح في مدرسة القرية قبل إغلاقها من قبل أولئك الذين تلحفوا بعباءة الدين الحنيف، واعتبروا كل ماعدا اسم الله زندقة، ودرب إلى الكفر والالحاد، حتى القسم بكتاب الله كفر، وبدعة يستحق من يسير على منوالها الجلد دون تردد، أما ذبح الإنسان لأتفه الأسباب، فلا يكون بدعة، وإنما تنفيذاً لأوامر الله، وكأن الله خولهم ليكونوا وكلاءه في ثواب وعقاب البشر، تناسوا أن تفسير الآيات الكريمة على هواهم بدعة ما بعدها بدعة. وأن الله خلق الجنة والجهنم ليوم الحساب.
ربما رشفة من الماء الفاتر لم تروِ ظمأ السيدة العجوز، ولكن قناعاتها كانت تجلب لها الفرح في كل حين رغم أحلك الظروف، فإيمانها القوي يفسح لها طريق الأمل، لذلك كان صوت الحاجة مفعماً بالسعادة، وهي تبشر أحفادها، وصغار القرية الذين ركضوا إلى بيتها طمعاً بحديث يدور فحواه عن البسكويت، وعصير البرتقال، فقد أصبحا من غرائب الأمور في حياة صغار لم يألفوا سوى الجوع، والفقر، والحرمان.
قالت الحاجة: ستأتي شاحنات محملة بكل ماتتمنوه
من لباس أوربية، وأحذية، وجوارب لم تروها، ولن تروا مثلها قط..
ثمَّ أردفت قائلة: أما عن المواد الغذائية، فهي معلبة، وجاهزة للأكل حتى الفول، والبطاطا، و ورق العنب جاهز للأكل قد لايحتاج للتسخين أيضاً.
تصوروا اللحم المقلي كأنه جهزته الآن. كل ذلك ستحصلون عليه من أول دفعة قادمة إلينا من المعونات، والمساعدات الدولية بعد أيام قليلة، وكمَنْ يريد أن يكون التشويق سيد الموقف.
قالت الحاجة : ها لقد نسيت أن أخبركم بما هو مخصص لكم ..ستلعبون بألعاب لم تحلموا بها في حياتكم من قبل. سيارات تسير على البطاريات قابلة للشحن، ودمى تسير، وتتكلم، وتضحك مثل الإنسان. يقولون عن تلك الدمى بالإنسان الآلي. بعض الأولاد الذين كانوا يسمعون السيدة العجوز قد سال لعابه من ذكر أنواع الطعام وهو يتخيل المائدة العامرة أمامه والبعض الآخر تحلق خيِاله وأصبح طياراً، والآخر سائق دبابة منتقماً من أولئك الأشرار الذين دمروا بيوتهم ، وشردوا أهلهم، وقتلوا أحبتهم،
لاحظت السيدة عائشة مايدور في خلد الصغار .
قالت بفرح كبير :سيجلبون لكم مسابح مسبوقة الصنع لتتعلموا السباحة كي لا تغرقوا في الماء عندما تصادفكم الأنهار ، أو البحار وأنتم في طريقكم إلى الهجرة، والبحث عن اللجوء الآمن في مكانٍ ما..؟
تغيرت نبرة صوتها إلى مايشبه الحسرة، والحزن عندما وصلت إلى الجملتين الأخيرتين،
ولكنها استدركت ذلك، وهي التي تجلدت بالصبر، والحكمة، ومشهورة ببث الأمل في النفوس
عادت مرة أخرى إلى لهجتها المفعمة بالسعادة:
هناك الكثير الكثير مما تحدثوا عنه في المدينة من أجلكم ...
لفحت الشمس وجوه الصغار بعدما تلاشى ظل الظهيرة، وقامت الحاجة تتابع ما تبقى من خطوات إلى بيتها الذي يوحي بأي شيء ما عدا أن يطلق عليه اسم البيت ، فالبيت يعني مايخطر في خيال المرء من صور، غرف عديدة، ومطبخ، وحمام، وتواليت.
أما بيت الحاجة، فحدث، ولاحرج غرفة لاتشبه الغرف
حفرة تحت بقايا أنقاض. بيت بدون معالم لا تدل عليه سوى بعض الأحذية المترهلة كأحلام سكان القريةجميعهم .
سأل الحفيد الصغير جدته: هل سيأتي أبي، وأمي مع هذه الشاحنات المحملة بكل شيء.
تجمد الدم في عروق الحاجة، خانتها الكلمات، والفطنة بالرد المناسب. تلعثَم لسانها، همهمت بكلمات غير مفهومة هروباً من حفيدها، وحفيدتها الأكبر سناً.
منذ إن غربت شمس ذلك اليوم ، وحلت العتمة التي ابتلعت أحلام أولئك الصغار. طال الانتظار، ومضت الأيام،
///// تابع لقصة سلة فارغة /////
وأخيراً تمخض الجبل بفأر صغير
سيارة من نوع الفوكس فان تحمل موظفَين من منظمة دولية تزين واجهة السيارة شعار جميل "من أجل غد بلا أرق نفسي نحن هنا"
ترجل المسؤول الأول، وسار إلى أقرب بيت من السيارة وبصوت عالٍ نادى: يا أهل البيت ...ياأهل البيت ....
خرجت السيدة عائشة من وكرها، وهي ترد على صاحب الصوت :نعم أخي ....تفضل ...سكان هذا البيت في ذمة الله
ماتوا، وهم في طريقهم إلى النجاة بقذيفة.ما..؟ بعضهم قال عنها إنها قذيفة هاون، فهي عمياء لاتميز بين المسلح والمدني
وبعضهم قال قذيفة طائرة ، والآخر قال لاشك أنها قذيفة دبابة، أو مدرعة، فهي كانت خارقة حارقة، وبطيبتها المعهودةأكملت حديثها: والله يا بني لا أفهم بهذه الأمور ، ولكن الشيء الأكيد أنني فقدت الأعزاء على قلبي. العفو يابني لقد أوجعت رأسك،
قال الموظف: نحن من هيئة دولية قادمون إليكم بهدف الدعم النفسي
قالت الحاجة : ماذا عن الدعم المادي. نحن ميتون من الجوع. أشباح، وهياكل بلا لحم ...
قال الموظف المسؤول: هذا ليس من شأننا ...هناك منظمات أخرى تهتم بهذا الجانب ...
كان كلامه يمزق أجساد أولئك الأطفال الذين تحلقوا حول السيارة الصغيرة ... دفنوا أحلامهم بتلك الكثبان الرملية التي غطت ساحة، وأزقة القرية ...
ابتعدت السيارة بعدما تركت عجلاتها أثارها في الرمال الناعمة، دون أن يدري ذلك الموظف الأممي بأنه فتح شروخاً في القلوب، تماما كالقذيفة التي دمرت هذه البيوت، والتي ستبقى مجرد أنقاض تشوه ملامح الإنسانية
....عبدالجابر حبيب ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق