الأربعاء، 4 مايو 2022

بقلم/ د.إبراهيم مصري النهر

 نافذة أرملة

في قرية ريفية تعيش هذه الأسرة؛ زوج يعمل أجيرا عند ذوي الأملاك، في الصباح الباكر يودّع زوجته بقبلة على جبينها، وتودّعه بابتسامة وقبلة بشفتيها المنفرجتين على ظهر يده المليئة بالتشققات.

يحمل معوله وبعد عدة خطوات يلتفت ليلقي نظرة حب على زوجته المنتظرة خلف فتحة الباب الموارب لتلوح له بيدها وتغلق الباب، ويدلف في طريقه، وتجري لترقبه من خلال فتحات شيش نافذتها حتى يختفي عن ناظريها خلف الحقول.

يستيقظ الأبناء على ضوء الصباح المتسلل عبر فراغات النافذة، يلعبون في الدهليز تحت نافذته المطلة على الشمس.


في أخر النهار يعود الزوج محملا بالحب والسعادة والابتسامات ويفرقها على أفراد أسرته بالتساوي.


ذات ليلة مرض فجأة، في الصباح اصطحبته زوجته بعدما أخذت ما ادخرت تحت مرتبة السرير من مصروف البيت؛ هناك طلب الطبيب بعض الفحوصات من إشاعات وتحاليل ثم كتب وصفته التي أجهزت على ما معهم من مال.


في طريق العودة أبدى الزوج قلقه مما بدا على وجه الطبيب حين نظر في تقرير الأشعة ونتائج التحاليل، لاطفته زوجته مازحة ”يا خووووويه .. عمر الشقي بقي“


لقد صارح الطبيب الزوجة بحقيقة مرض زوجها، لكنها تشبثت بنافذة الأمل، باعت حليِّها ثم بقرة كانت تدر عليهم لبنا يسد رمق أطفالها؛ تركض خلف سراب، وكما يقولون ”الغرقان يتعلق في قشَّايه“


مات الزوج بعد أن افترسه الخبيث ومزَّقه بأنيابه مخلِّفا وراءه زوجة في قمة الجمال وفي ذروة أنوثتها، وأفواه أطفال مفتوحة، وبطون تتضور جوعا!

ينظر إليها المجتمع من خلال نافذته ليراها لحما أبيضا دافئا ذا تضاريس بارزة، أرضا جدباء تشققت من شدة الظمأ؛ يتحرشون بها في العمل، وفي المواصلات يلتصقون بها وشبق الشهوة يملأ أعينهم، في حين أنها ما زالت برغم مرور أربع سنوات متوشحة السواد، جلبابها الأسود  يغطي جسدها ويطمس معالمه، شعرها الأشعث تُحكم لفه بوشاح شاحب كلون وجهها الخالي من المساحيق، فنصائح أمها ما تفتأ يتردد صداها على مسامعها: عليك أن تهتمي بأبنائك وتنسي كل شيء عداهم.. حتى نفسك..

تحاول جاهدة درء تلك المشاعر التي ما انفكّت تقتحم مخيلتها؛ أي مشاعر تذكرها بأنوثتها وحاجتها إلى رجل، تمزج الحزن وألم الفقد ومضايقات التحرش وتسكبه مرا في حناياها.

تمكث كل يوم خلف نافذتها على ذكريات الماضي بالساعات، على أمل أن تلمح طيفه الذي لم يفارق خيالها لحظة، متجسدا أمام عينيها، عائدا في المساء، ملوحا لها من بعيد، تجري تفتح له الباب؛ يحتضنها، يقبلها، يطفيء نار شوقها، يروي شبق شهوتها، ويفرق عليها وعلى أبنائها الابتسامات.........  


في تلك الليلة بعد أن احتضنت صغارها تهدهدهم حتى أخذهم النوم وراحوا في ثبات؛ تحرّرت من ملابسها قطعة تلو الأخرى حتى تلطّف من حرارة الشوق ونار الحرقة، يصعد صدرها ويهبط مع أنين الألم وزفرات الفقد، فردت ثنايات جسمها الأبيض الشمعي الدافيء تحت غطاء الوحدة البارد وعلى فراش من شوك يفزعها ويطرد النوم من مخدعها...

وهي تزدرد ريقها بصعوبة، وقعت عيناها على صورتها الفاتنة في المرآة، اتسعت حدقتا عينيها وكأنها لأول مرة ترى نفسها، وتساءلت: كم يخفي هذا الجلباب الأسود -الذي صرت لا آلف جسدي في سواه- من مفاتن وجمال؟! وكم يُخمد تحت رماده من جمر الرغبة ونار الشهوة؟!

ساورتها رغبة لم تستطع مقاومتها في ارتداء قميص الحرير الأحمر الذي يحبه زوجها، صففت شعرها الذي أضناه سجن طرحتها منذ سنين، وأتت بقارورة العطر التي تراكم عليها التراب؛ نفضتها وتعطرت، طوحت شعرها خلفها وهي تضع يديها في خصرها وتنظر إلى المرآة ويداعبها الحنين.....

أفاقها دبيب أقدام وهمس أصوات خلف شيش النافذة، شعرت برهبة ودق قلبها بعنف، أحست أنها ارتكبت جناية؛ كيف لها أن تحيي ما وأدته من سنين، يا ويلها لقد انتبهت أنها لم تسحب الستارة على النافذة، بسرعة تكفنت بسوادها وفتحت الشيش، وكانت المفاجأة!


د. ابراهيم مصري النهر



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بقلم/ محمد السر شرف الدين

 وشاية نعتني بقصيدة البست كل الحروف أكفان الحداد والنقاط مزّقت ثوب الحبور هل كل ذلك صدى حديث مفترى يرمون بذرة حقدهم مثل الأفاعي بالنعومة وال...