قصة قصيرة...
الحلقة المفقودة
إنها السابعة والنصف صباحا، اليوم سألتحق بالوظيفة الجديدة كباحث إجتماعي لإحدى المدارس الثانوية والتي لم تبعد كثيرا عن مكان اقامتي وهي مسافة معقولة تتيح لي التأمل لطرد بعض التوتر الطبيعي الذي ينتاب المرء في أول يوم من التحاقه بالعمل، وصلت الى المدرسة المعنية، شكلها من الخارج يبدو عاديا، مجرد بناية قديمة، دخلت من بابها الكبير المخصص للأساتذة، إعتراني شعورغريب، نظرا لطراز المبنى وفخامته من الداخل، غرفة الإدارة أمامي مباشرة، كان وصولي بالوقت المحدد ، دقَّ الجرس، إنتظرت بضع دقائق، ليعم الهدوء والسكون بعد الضجة التي أحدثها الطلاب أثناء إانسحابهم كلا لصفه، كان هناك أكثر من معاون لمديرة المدرسة، سألتهم فيما كان لديهم علم بمباشرتي اليوم، نصحوني بأن أنتظر المديرة شخصيا، حينها لمحت شخصا يمشي الهوينا، يحمل بعض الكتب بيديه، يبدو إنه أحد التدريسيين، لكن ما أثار فضولي إن هذا الشخص يشبه تماما عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين لدرجة كبيرة ومدهشه، فركت عيني كي أتأكد من صحة نظري، إن كان حقا أينشتاين أم رجل يشبهه، حينها وصلت المديرة ، وأنا أنظر لمداسها وكيف له أن يتحمل ذلك الوزن الهائل إنشغلت عن الرجل، ورحت أقدم أوراق مباشرتي، لمديرة المدرسة، نظرت لي بإزدراء، وهي تقول:
-هل من خدمة؟...
- صباح الخير سيدتي... أنا الباحث الإجتماعي المبعوث من قبل مديرية التربية، لتعييني في مدرستكم الموقرة، وهذا أمر مباشرتي.
ما أن أتممت كلماتي حتى صَرخت المديرة مستنكرة.
- هل يعقل هذا؟!! لقد طلبت لجنة متخصصة وعددٍ من عناصر الأمن، وها هم لايعون حجم المشكلة ولا يكترثون لطلبي، ليبعثوا لي بموظفٍ حديث التعيين ليس لديه خبرة بشؤون الطلبة ولا بمشاكلهم.
كان جوابها صادماً بالنسبة لي، لكني احتويت الأمر وقلت في نفسي إنها مجرد مدرسة، ما الذي يمكن أن يحدث فيها غير مشاغبة بعض الطلبة المستهترين بقوانين المدرسة وعدم إدراكهم بأهمية تلك القوانين فقلت:
- أرجو منك إعطائي فرصة لأثبت لك قدرتي على حل تلك المشاكل.
حينها اقتربت مني، وضعت وجهها بوجهي، وفتحت عينيها، وهي تهمس بوجل ممزوجا بغضب، هل تعلم ماذا يحدث هنا؟
إن العنف يسرِ في المدرسة، مسرى الماء حين اجتياح الفيضانات للقرى والمدن، وفي طريقه يكتسح كل ما تبقى من أخلاق ومبادىء ، أصبح العنف لغة مسلّم بها بين الطلبة... في الأسبوع الماضي، فقأ أحدهم عين زميل له، وآخر اغتصب أحدى الطالبات، ناهيك عن إدمان المخدارت الذي تفشا بين الطلبة، وبروز ظاهرة العصابات بينهم ، عصاباتٍ تحمل اسماء غريبة تثير الإشمئزاز.
كررت عرضي لمديرة المدرسة بإعطاءي فرصة، لأثبت لنفسي ثم أثبت لها بأنني قادر على حل تلك المشكلات، بإستعادة النظام والأمن للمدرسة دون الحاجة إلى لجان متخصصة او استدعاء عناصر للأمن.
رمقتني بنظرة، بدت أن لاحيلة لها بقبول عرضي هذا وتنهدت قائلة:
حسنا... لنجرب... أعطيك مهلة شهرٍ واحدٍ، لنرى إذا ما استطعت عمل تغييرا ملحوظا، يبدو على ملامحك إنك واثق من نفسك.
حينها سلمتها أمر مباشرتي، وأخبرتها بأني سوف أبذل كل ما بوسعي لإنجاح الأمر، هممتُ لترك غرفة الإدارة، لكن قبل أن أخرج، تذكرت الرجل شبيه أينشتاين، أخذني الفضول للسؤال عن إسمه، إقتربت من أحد معاوني المدرسة موجها له سؤال: تُرى من هذا الرجل شبيه أينشتاين؟ هل هو أستاذ في المدرسة؟
أبتسم المعاون قائلا: نعم إنه السيد ألبرت أينشتاين مدرس مادة الفيزياء.
فقلت له كيف يمكن أن يكون ذلك؟ إن ألبرت أينشتاين رحل عن عالمنا منذ عقود.
- أنظر للجدول في لوحة الإعلان، سترى بنفسك الإسم.
في طريقي للجدول المعلق في بهو المدرسة، قلت في نفسي، هل يعقل هذا؟!
سرعان ما سعفني تحليلي للأمر، إن هذا المدرس قد تشبع بالمادة وتعلق بحبها لدرجة أصبح يقلد هذا العالم الجليل، سرعان ما تبخرت الفكرة حين لمحت إسمه في الجدول، ما زاد إستغرابي أكثر، قررت أن أتابع أسماء المدرسين والأساتذة، فكانت الصدمة أكبر حين بدأتُ بقراءة تلك الأسماء، ماهذا؟!! إنها ماري كوري، مدرِّسةً لدرس الكيماء، وهذا تشارلز دارون صاحب نظرية التطور مدرسا لمادة الاحياء، والكثير غيرهم.
حينها أصبتُ بالدهشة، كيف لهؤلاء العلماء أن يجتمعوا بزمن واحد بعد أن عاشوا حياتهم بأزمنة وأمكنة متفرقة وجنسيات مختلفة؟ ترى أي مدرسة هذه؟ أين أنا بالضبط هل أنا في حلم؟ بعدها اعترتني رعشة عندما تساءلت في نفسي عن مدرس مادة التربية الدينية.. هل يمكن أن يكون نبي؟!! حتى أنني نسيت المهمة التي جئت من أجلها.
وثب لذهني سؤال أكبر.. كيف لمدرسة تتعامل مع علماء بصفة مدرسين، يتمكن منها العنف، لهذه الدرجة؟
تحمست للحصول على جواب شافي، رحت أسجل إستطلاعاً للرأي، فأخذت عينة لا بأس بها من الطلاب، وزعت عليهم إستماراتٍ إستبيانية، تضمنت أسئلة مختلفة، حال إنتهاء الإستبيان، تَكَشَف لي أمورا كثيرة، دونتها في تقرير مفصل، قدمته لمديرة المدرسة، فأستهجنت الأمر وقالت...
- إن هذا التقرير طويل جدا... أرجوك بين لي أهم ما ورد فيه.
- لابأس... سأشرح لك أهم النقاط التي وردت في التقرير، أول نقطة تبين أن هناك خللا كبير في هيكلية المدرسة، أن عدد صفوف القسم العلمي لا يتناسب مع عدد صفوف القسم الأدبي، وهي بنسبة صف واحد، أدبي، مقابل عشرة صفوف للقسم العلمي.
-إنها رغبة الطلبة… لا رغبتنا...
- إن هذه القلة من الطلبة تعاني من التهميش، والنظرة المتدنية.
- المجتمع بأسره، ينظر إليهم بتلك النظرة..
- إن مجتمع ذا أفقٍ ضيق، هو مجتمع أعرج.
- أعرج!!! كيف ذلك؟
- إن كل العلوم الصرفة منها والإنسانية، تمثل قدما الحضارة الإنسانية التي تقف عليها، فإذا ما بُتِرت إحدهما، كيف لموكب الحضارة أن يسير؟ إن كانت العلوم الصرفة تجعل الحياة أفضل برفاهيتها فإن لها جانبا من الخراب والدمار إذا ما أسئنا إستخدامها، لكن العلوم الإنسانية تجعل الحياة أكثر إستقامة وتهذيبا. هل تعين ياسيدتي أهمية الشعر والأدب؟ إنهما نتاج إنساني وعصارة لتجارب الإنسان وفكره، وأن اللغة هي مقياس لتطور الوعي البشري وأن التاريخ هو سُلّمه، أتعلمين إن الفلسفة هي البحث عن الحكمة التي تفضِ لسعادة الإنسان؟ ، وماذا عن معرفتك بإدارة الأموال وإلاقتصاد الذي هو عصب الحياة، هل تعين دورهما على مستوى الفرد والدولة، وما يتبع سوء الإدارة من تداعيات سياسية وأقتصادية.
أما الأمر الأخر فهو لا يقل خطورة.
- ما هو؟
- ان إدارتكم رفعت درس الرياضة من المناهج التعليمية، ربما لم تسمعِ بالقول السائد«إفتح لي ملعبا أغلق لك سجنا ومستشفى» والموسيقى ياسيادة المديرة المحترمة، هل تعين دورها وتأثيرها وقدرتها للوصول لأبعد نقطة من اعماقنا، فتحاكي مشاعرنا بمصداقية مطلقة، والرسم ياسيدتي هل تعرفين دوره وأهميته؟ إن دقائق من التأمل أمام لوحة فنية، قادرة أن ترمم ذات الإنسان وتعيده إلى فطرته السليمة التي خُلِق عليها، وبقية الفنون تفعل هذا، ان الفنون لغة تعبريية فضلى..هل تعتقدين إن إلغاء مناهج مهمة بتأثيرها على الصحة الجسدية والنفسية والفكرية، هو عمل صائب؟
- ليست لدي أي فكرة عن ذلك.
- إن كل أسباب العنف التي ذكرتيها، تلك هي أسبابها، إضافةً لسببٍ مهم آخر... إنكِ فصلتِ صفوف الإناث عن الذكور... مما شكل هوّة كبيرة بين الجنسين، وأصبحا عالمين غامضين لبعضهما، فلا يخضع التواصل بينهما لأصول صحيحة، مما يتسبب بكل ذلك الأرباك.
- ما العمل الأن؟
- العمل هو أن تنظري بعين الأهمية القصوى لتلك الملاحظات.. وأن لم تفعلي لن يَستتب الأمن في مدرستكِ…. والآن دعيني أخرج لقد انتهت مهمتي.
- لا... أرجوك ياسيد سيغموند فرويد...
ان (مدرسة الحياة) بحاجة إليك ولا يمكنها الإستغناء عنك.
..........................................................إيثار
محسن.......................................................العراق..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق